في خزانة الروح، هناك، ما زال معلقًا ذاك المعطف.
لا أجرؤ على لمسه، ولا أقوى على رميه. أقف أمامه أحيانًا كما يقف المرء أمام قبر لا يعرف إن كان الفقيد فيه يستحق الدموع أم اللعنات. خيوطه ليست من صوف، بل من نسيج وعدٍ بارد، ووهمه بالدفء كان أشد فتكًا من كل صقيع العالم.
لم يكن مجرد معطف. كان وطناً ارتديته لأحتمي من عراء أيامي،
وكان جلداً ثانياً ظننته سيستر عيوبي الأبدية.
دسستُ في جيوبه كل كنوزي الصغيرة: ثقة طفلة،
مفاتيح بيتٍ لم يُبنَ بعد،
وقصاصات ورقٍ كتب عليها اسمي بخط يدهم.
كنت أظنها محفوظة.
لم أدرك أن الجيوب المثقوبة لا تحفظ شيئًا،
بل هي بوابات للسقوط الصامت،
تبتلع كنوزك بهدوء، ثم تتهم الريح بالسرقة.
ألبسه أحيانًا في ليالي الوحشة الموحلة. ليس لأستدفئ،
لا... بل لأتذكر بدقةٍ تشريحيةٍ كيف كان البرد قاسيًا وأنا أظنه دفئًا.
لأتحسس الفراغ الذي تركته أجسادهم في قماشه،
فراغٌ له شكلٌ وحجمٌ وثقل.

إنه ليس غيابًا،
بل حضورٌ سالب،
حضورٌ أثقل ألف مرة من الامتلاء.
أضع يدي على قلبي، فلا أجد إلا برودة القماش،
برودة اليقين بأنهم كانوا هنا، وأن هذا البرد هو الأثر الوحيد،
هو التوقيع الذي تركوه على جلدي.
كل خيط فيه هو حبل مشنقةٍ التفّ حول حلمٍ صغير. ورائحته ليست عطرهم، بل رائحة الأيام التي تعفنت بصمتٍ ونحن ننتظر عودتهم من رحلةٍ لم يخبرونا بوجهتها.
يقولون: "احرقه لتتحرر".
لكن كيف تحرق شاهد قبرك؟
كيف تحرق الدليل المادي الوحيد على أنك راهنتَ بروحك كاملةً على وهم؟
هذا المعطف ليس ذكرى، إنه أنا.
إنه الجلد الذي سلخوه عني وتركوه معلقًا كراية هزيمة.
المأساة ليست في أني أحتفظ بالمعطف.
المأساة هي أن المعطف،
بكل ثقوبه وبرده وجيوبه الفارغة،
هو كل ما تبقى مني.
No comments:
Post a Comment